نغور بكم في أعماق العلاقة القائمة بين النحل والإنسان، ونستكشف الصلة التي تربط منطقة الخليج بهذه الحشرات النشيطة المثابرة
يمكن حتمًا وصف العلاقة بين البشر والنحل بأنها طويلة الأمد، رغم كونها، نوعًا ما، من طرف واحد. إذ تكشف فنون عصور ما قبل التاريخ كيف استغلّ البشر هذا النوع من الحشرات منذ نحو عشرة آلاف سنة. كذلك، كان المصريون القدامى يضعون جرار العسل في مقابر الفراعنة. وكانت الأديرة في أوروبا في العصور الوسطى تُضاء بشمع العسل. إلا أننا لم نتساءل كثيرًا عن بيولوجية النحل ومجتمعاتها إلى أن بدأ فلاسفة علوم الطبيعة يهتمون بهذا الأمر في القرن الثامن عشر، أي قرابة الوقت نفسه الذي تعلم فيه الإنسان أخيرًا كيفية استخراج العسل دون تدمير الخلية. أما اليوم، وبعد بضع مئات السنين، ما زلنا نحاول إدراك مدى أهمية النحل، وإلى أي مدى تعتمد حياتنا عليه.
هذه الكائنات الصغيرة تلقّح نحو ثلث محاصيل الأرض، ما يعني أنّ علينا أن نشكر النحل على كلّ ثالث ملعقة طعام نتناولها. وصحيحٌ أنّ هناك العديد من الحشرات الملقِّحة الأخرى، لكنّ أيًّا منها لا يكدّ بقدر النحل، وفي ظل عوامل مهدِّدة تتراوح بين الأجناس الغازِية، والتسمم بمبيدات الأعشاب، وتدمير موائلها، والاحترار العالمي الذي يدفعها للعيش في بيئات أضيق وأعلى وأبرد، ناهيكم عن "فيروس الأجنحة المشوهة" الذي انتشر عن طريق العثّ الطفيلي وتسبّب في خسائر فادحة لمستعمرات النحل في مطلع هذا القرن.
ويقول البروفسور توماس سيلي من جامعة كورنيل التي تعتبر مرجعًا رائدًا في دراسة سلوك النحل، إن أهم اكتشاف توصلنا إليه خلال العقد الماضي هو أنّ بعض النحل البري قد نجح بالتكيّف مع العث (المعروف باسم فاروا المدمّر). وفي كتابه الأخير الذي يحمل عنوان "تربية النحل بحسب مبدائ داروين"، يلخّص البروفيسور أفكارًا لتعزيز صحة أجناس النحل على نحوٍ يتماشى مع عملية الانتقاء الطبيعي التي اعتمدها النحل على مدى آلاف السنين. ترى، هل يمكن توسيع نطاق هذه الأفكار لتشمل قطاع تربية النحل، وبالتالي المساعدة في ضمان أمننا الغذائي؟
ردًّا على هذا السؤال، يجيب البروفيسور سيلي قائلاً: "ربما لا. فتربية النحل على نطاق واسع تتطلب حشد المستعمرات معًا [ما يتيح انتشار الأمراض]، كما أنّ حجمها يجعلها مضيفًا ممتازًا للعث. ومن جانب آخر، تعتمد تربية النحل على ملكات موّلدة بطريقة تجارية، ولم يتم اختيارها بطريقة صحيحة تساعدها على مقاومة هذا العث." لقد تصدّر البروفيسور سيلي دراسات النحل على مدى عقودٍ، ومع ذلك، فإنه يجد صعوبة في تحديد ما يثير إعجابه بها تمامًا، باستثناء قوله إنّ إعجابه هذا قد يكون نابعًا من دراسة "مجموعة من الحيوانات، أو الحشرات، التي يعمل فيها الكلّ بانسجامٍ تام."
مربّي النحل أوليفييه كنتاغريل الذي يعمل في دبي يقول الأمر نفسه تقريبًا. رأى أوليفييه النحل للمرة الأولى في مزرعة جدّيه القائمة في وسط فرنسا عندما كان طفلاً، ولكنّه بعد ذلك أمضى معظم حياته ومسيرته المهنية بالعمل في مجال الاتصالات، "بعيدًا عن الطبيعة دون أن يتسنّى الوقت ولا المكان لأي نشاط من هذا القبيل." وبعد أن قام جاره الإماراتي حسين بتعريفه مجدّدًا إلى خليات النحل، أصبحت منذ ذلك الحين "هواية خرجت عن السيطرة،" على حدّ قوله.
تقاعد أوليفييه من وظيفته السابقة، وهو الآن يربي النحل الخاص به، ويستخرج العسل الخام ويبيعه، كما يقوم بإنشاء خليات يبيعها لهواة تربية النحل الآخرين، ويدير ورش عمل للأطفال، ويزيل أحيانًا النحل البري عن الشرفات حول المدينة بناءً على طلب السكان القلقين منها. وفي هذا الإطار، يوضح أوليفييه قائلاً إنّ للخليج صنف محلي خاص من النحل يُسمى أبيس فلوريا.
"عاش هذا الصنف من النحل هنا قبل نشأة المدينة، قبل البشر، وحتى قبل أن تكون هذه المنطقة صحراء. وتتوسّع الآن الرقعة التي ينتشر فيها هذا النحل مع التوسّع الذي تشهده دبي." وهذا ما يجعل هذا النوع المتميّز من النحل القزم استثناءً نسبيًا للتوجه العام، بوجود أكثر من 50 نوعًا من النحل مهدّد بالانقراض، وسبعة منها على الأقل مهدّدة بشكل حرج. ومن جانب آخر، لقد تطور النحل المحلّي ليتأقلم مع درجات الحرارة المرتفعة جدًا التي تشهدها دولة الإمارات في فصل الصيف، حتى عندما لا ينتج الكثير من العسل.
تضم مزرعة نحل أوليفييه، كما يسميها، فصيلةً مستوردة من نحل العسل الغربي "أبيس مليفيرا"، التي تُعدّ أكثر إنتاجية بكثير من الأنواع الأخرى، غير أنّها أيضًا أقل تحمّلاً للحرارة. ويميل أوليفييه في أساليبه عمومًا إلى ما يسمّيه بتربية النحل بطريقة طبيعية، وهي طريقة تسبب الحدّ الأدنى من الاضطراب لخليات النحل وتحاكي الظروف التي يعيش فيها النحل في البرية بقدر الإمكان. ولكنه يوضّح في الوقت نفسه أن هذا النحل بالذات لا ينتمي إلى دبي، كما أنّ خليات النحل المتواجدة في الغابات لا تكون قريبة من بعضها البعض لهذه الدرجة، "ما يعني وجود عنصر من التدخل البشري دائمًا بما نقوم به."
ولكنّ أوليفييه يمكنه على الأقل أن يقدّم الظل والماء، وهما عنصران يحتاجهما النحل للبقاء على قيد الحياة في هذا المناخ. وفي الأشهر الأكثر حرارة، يتم تخصيص جزء كبير من العمل لتبريد المستعمرة، كما يمنح أوليفييه النحل العناية والاحترام اللازمين، أو "الحد الأدنى من اللياقة،" على حدّ تعبيره. وفي حال التعرّض للّسع أثناء استخراج العسل، يعتبر ذلك حصول "نوع من سوء التفاهم." وعند سؤاله عن مدى تكرّر هذا الأمر، يجيب إنّه قد يحصل مرتين في السنة، ولكنه يعترف أيضًا: "لقد تعرّضت للّسع قبل اتصالكم بي بدقيقة تقريبًا."
يُعدّ عمل أوليفييه، من حيث إنتاج العسل الخام، جزءًا من تقليد يعود إلى الماضي القديم، علمًا أنّ العسل استُخدم تاريخيًا في منطقة الخليج كعلاجٍ طبي أكثر من كونه طعامًا. "إذا تخيّلنا واحة صغيرة في العصور القديمة، ليس فيها سوى بضع أشجار نخيل وبعض الخضار، صحيح أن السكر الموجود في العسل كان قد يمنح النشاط، وإنما كانت له أيضًا خصائص وقائية ومطهرة تساعد في التئام الجروح. وما يزال العسل حتى اليوم يُستخدم في معالجة الحروق."
يبلغ سعر العسل في سوق الإمارات اليوم ما يصل إلى أربعة أو خمسة أضعاف سعره في أوروبا، لكنّ أوليفييه لا ينتج ما يكفي لجني المال الوفير. "لا يصبح المرء ثريًا بممارسة هذا العمل. فأنا أجده خطوة جميلة بعيدًا عن عالم الشركات الذي أمضيت فيه سنوات كثيرة من حياتي. ومع التقدّم في السن، من الجيد أن يشعر المرء أنه ينجز عملاً مفيدًا مهما كان بسيطًا."
يجدر بالإنسان حتمًا التصرف بمزيد من "اللياقة" في تعامله مع النحل، تمامًا مثلما يقوم به أوليفييه في مزرعته الصغيرة، بخلاف ما يجري في العمليات التجارية التي جعلت علاقتنا بالنحل تبدو أكثر تسببًا بالأذى من أي وقت مضى. "إن الحاجة إلى تعزيز الإنتاج تدفع مربّي النحل الصناعيين الحديثين إلى سلك طرق مختصرة، فتصبح منشآتهم أقلّ شبهًا بالمَزارع وأقرب إلى المصانع." ويقول أوليفييه إن علاقته بالنحل ليست شخصية، مع أنّها قد تبدو كذلك.
"لا يقيم المرء رابطًا مع نحلة واحدة لأنّها لا تعيش إلاّ بضعة أسابيع، لكن المستعمرة بكاملها تمثّل وحدةً فعلية بقدر ما هي كائنات اجتماعية." ويصف أوليفييه كيف أنّ إدخال يده في الخلية هو بمثابة شكل من أشكال التأمل ووسيلة للتواصل ومدخل إلى بُعد آخر. "أصبح البصر أكثر حاسةٍ نستخدمها نحن البشر. أمّا النحل، فيعتمد أكثر على حاسّة الشمّ. إذ يرسل الرسائل ويتلقاها عن طريق إفراز مواد كيميائية تًسمى بالفيرمون. لذا، فلا بدّ أن تكون هادئًا، ليهدأ النحل. وعندما تزداد هدوءًا، يتقبلّك النحل نوعًا ما في عالمه الغامض."