اتّخذ المزارعون الإيرلنديون الاستدامة ركيزةً لأعمالهم منذ زمنٍ طويل قبل أن تغدو هذه الكلمة مصطلحاً شائعاً. ويعملون بين أحضان بيئة زاخرة بالمساحات الخضراء وبتربة غنية وخصبة ترتوي من مياه الأمطار الغزيرة. كما تُعدّ إيرلندا جزيرة صغيرة تحتضن عدداً من المَزارع التي تديرها العائلات منذ فترة طويلة، والتي تُستثمر لحماية المساحات التابعة لها والحفاظ عليها، فتُعتبر هذه المسألة أشبه بمسؤولية موروثة أباً عن جدّ.
في إطار البعثة الإيرلندية التجارية الأخيرة إلى الإمارات العربية المتّحدة، أوضح وزير الزراعة والأغذية والثروة البحرية الإيرلندي تشارلي ماكونالوغ موقف بلاده بالكلمات التالية: "في إيرلندا، ننتج طعاماً يتناغم مع الطبيعة لنقدّم مأكولات شهية، ومغذية ومستدامة في الوقت عينه". وأضاف قائلاً: "كانت هذه الزيارة بمثابة فرصة مثالية لاستعراض قطاع الأطعمة الزراعية الإيرلندي الذي يزدهر يوماً بعد يوم." في الواقع، ساهم البرنامج الترويجي الذي أطلقته سبينس بعنوان "منتجات مستقدمة من مصادر مستدامة من إيرلندا" في استعراض "منتجات عالية الجودة ومنتجة بشكل مستدام بما في ذلك مشتقات الألبان واللحوم والبيض ومنتجات الطعام الاستهلاكية" التي يتم شحنها طازجة من مسقط رأس الوزير.
على سبيل المثال، يُستقدم بيض سبينس من شركة نيستبوكس إيغ التي أبصرت النور على يد بادي ماكغينيس الذي كان منذ أكثر من نصف قرن يضع السلع في سلّة دراجته، وينطلق بها ليوزّعها على العملاء في مقاطعة موناغان. واستكملت عائلته وشركاؤها مسيرته المهنية باسم "إيفرز" وباتت اليوم تنتج البيض البلدي العضوي الغني بالأوميغا 3 وفقاً للقيود التي وضعتها وكالة الغذاء الإيرلندية "بورد بيا" وخطة ضمان الاستدامة التي وضعتها الوكالة والتي تحمل عنوان "أوريجين غرين".
سنعرض مثالاً آخر مأخوذاً من قطاع مشتقات الألبان: تُعدّ غلينيسك شركة رائدة في إيرلندا تورّد منتجات عضوية من الزبادي والكريمة وحليب الماعز، وتُصنع المنتجات في المزرعة في كيلي، بمقاطعة أوفالي، حيث قام مؤسّسا الشركة جاك وماري كليري بتربية أطفالهما الـ14. في سبعينيات القرن الماضي، كبرت أسرة الزوجين بسرعة كبيرة ممّا أجبرهما على إنشاء "مؤسسة عائلية مستدامة على الصعيدَين الاقتصادي والبيئي"، بحسب المديرة التجارية في غلينيسك، إيما وولز. فبدآ بتعبئة الحليب المنتج في مزرعتهما وبيعه، ثم وسّعا نطاق عملهما فبدآ في الثمانينيات بإنتاج الزبادي تحت اسم شركة غلينيسك.
أضافت إيما شارحةً أنّه ثمّة فرق شاسع ما بين المنتج "الطبيعي" و"العضوي"، رغم أنّ الكثيرين يجهلون هذا الفرق، إذ تُعد كلمة "الطبيعي" "مصطلحاً تسويقياً لا معنى له ويمكن لأي شخص استخدامه"، فيما يُعتبر مصطلح "العضوي" "معياراً منظّماً يتحكّم بقطاع الزراعة والحيوانات وعملية الإنتاج". في منتصف التسعينيات، بدأت الأسرة باستقدام الحليب من عددٍ قليل من المزارعين الآخرين الذين التزموا بتقديم منتجات عضوية، وشرعت في إقناع الآخرين باتّخاذ هذا المنحى. وقالت وولز: "كان لا بدّ من طرح الفكرة على تجار البيع بالتجزئة غير المطّلعين على صيحة المنتجات العضوية الجديدة."
انتشرت هذه الصيحة أكثر فأكثر لتبلغ كافة جوانب هذا القطاع، فاحتلّت غلينيسك الصدارة في هذا المجال، وعمل ستة أولاد من أصل الـ14 ولداً ضمن عائلة كليري على إدارة الشركة (وإنشاء احتياطي للإنتاج وضمان سير الأعمال بعدما اندلع حريق مروّع في المصنع عام 2021). وتضيف إيما أنّ هذا القطاع شهد على انضمام المزيد من المزارعين إلى ما وصفته بـ"رحلة التحوّل". تشكّل هذه الرحلة التزاماً كبيراً يتطلّب من المزارع التخلّي عن الأسمدة أو المبيدات الاصطناعية للحشرات لمدة عامَين كاملَين قبل الحصول على شهادة المنتجات العضوية. بالتالي، سيتغيّر مع هذه العملية النظام البيئي للتربة فيما ينمو العشب بوتيرته الخاصة. وبات الحليب العضوي أكثر تكلفة ولاسيّما مع انخفاض عدد الحيوانات التي تنتجه في المنطقة، ممّا يفرض على المزارعين زيادة التكلفة. "لا نعتبر التكلفة المرتفعة عاملاً سلبياً. فمزارعونا هم حراس الأرض، إذ يساهمون في تعزيز التنوّع البيولوجي وحماية الأرض، ولا بدّ من أن نردّ لهم الجميل".
علاوةً على ذلك، يزخر الريف الإيرلندي بالمزيد من المساحات الخضراء الغناء التي تمتدّ ما بين قرية كيلماكتوماس وجبال كوميراغ الضبابية في مقاطعة وترفورد، حيث يتدفق نهر ماهون بين أحضان حقول الشوفان. وتتربّع في هذا الموقع طاحونة مائية بُنيت في العام 1785، ومنذ ذلك الحين تملكها وتشغّلها العائلة نفسها التي لا تزال تعيش على الجانب الآخر من الطريق.
باعت عائلة فلاهفان الشقّ الزراعي من شركتها التي تعود إلى قرون، فصبّت تركيزها على مصلحة المستهلك، وراحت تطوّر وتطرح مجموعة من المنتجات الجديدة، فباتت الآن تنتج كلّ أسبوع حوالي مليوني وجبة من الشوفان حول العالم. (تضمّ المجموعة عصيدة الشوفان متعدد الحبوب، والشوفان سريع التحضير المعبأ في أكياس يمكن وضعها في المايكرويف، فضلاً عن أحدث منتجاتها ألا وهي مشروبات الشوفان). تُعدّ التربة عنصراً رئيسياً لسير أعمال الشركة كما لصنع المنتجات، إذ تتمّ تعمل الطاحونة على قشور الشوفان المسلوقة الناجمة عن عمليات الإنتاج منذ العام 1985.
وفي هذا السياق، يقول جون فلاهفان، حفيد حفيد مؤسّسَي العلامة: "لقد فكرنا في اعتماد الاستدامة قبل أن تتصدّر جدول الأعمال العالمي بفترة طويلة، وكنّا من أولى مطاحن الشوفان في العالم التي تولّد الطاقة عبر البخار، ما يميّزنا باعتماد عملية إنتاج فريدة صديقة للبيئة." في السنوات القليلة الماضية، قامت عائلة فلاهفان بتركيب توربينات الرياح والألواح الشمسية لتزويد المحطة بالطاقة. وأضاف قائلاً: "ما لا نصنعه من مصادرنا المتجددة نشتريه من مصادر متجددة [أخرى]."
في العام 2021، أكملت الشركة إنشاء أرض رطبة متكاملة حول المنشأة، وهي عبارة عن أحواض من القصب تعمل على تصفية مياه الصرف الصحي في سلسلة من البرك. ومهما بدا هذا النظام متقدماً، لا تزال الشركة تتمسّك بجوهرها. فيقول جيمس فلاهفان: "لم تتغيّر كثيراً عملية إنتاج الشوفان منذ ثمانينيات القرن الثامن عشر". ففي ذلك الحين، كانت الحبوب توضع بين حجرَين دائريين وتُطحن، فينتج عنها شوفان يحاكي قوامه حبوب الشوفان الصلبة التي لا تزال متوفّرة حتّى يومنا هذا. وبحسب جيمس، طرحت الشركة ابتكارها الرئيسي الأخير في ثلاثينيات القرن الماضي، حين بدأت بطحن الشوفان، ممّا ساهم في توفير مساحة إضافية وتقليل وقت الطهي.
ارتفع عدد المنتجات الجاهزة، لكن لا نستغني أبداً عن الأطعمة البسيطة الأصيلة التي كانت في طليعة العصر الصناعي جزءاً صحياً مهماً من النظام الغذائي اليومي في إيرلندا. يستشهد جيمس بالنتائج التي توصلت إليها وكالة "بورد بيا" عام 2021 والتي تفيد بأنّ جائحة كوفيد-19 عزّزت التركيز على الصحة الجسدية والعقلية التي كانت مصدر قلق متزايد في القرن الحادي والعشرين. وقال: "نرى العملاء يلجؤون إلى العصيدة لأسباب عدّة، إذ يعتبرون الحبوب الكاملة والألياف المرتفعة من حاجات الجهاز الهضمي الصحية، وهذا بالضبط ما تقدّمه علامة فلاهفانز."
تشتهر إيرلندا بزراعة البطاطا التي تعكس قطاع الزراعة في إيرلندا ومجتمعها وتاريخها وصورتها الدولية. ففي ما مضى، زرعت عائلة كيوغ البطاطا لأكثر من 200 عام بالقرب من قرية أولدتاون الكائنة في شمال مقاطعة دبلن، وزوّدت بها العاصمة ومناطق أخرى في البلد. ثم شهد الطلب تراجعاً ملحوظاً في مطلع الألفية، حيث وجّه الازدهار الاقتصادي في إيرلندا المستهلكين إلى الباستا وغيرها من السلع الأساسية "المواكبة للعصر".
في هذا الإطار، قال روس كيوغ: "كان التدهور واضحاً مثل عين الشمس، ولا بدّ من القيام بشيء حيال ذلك". وفي ذلك الحين، ظهر مفهوم "رقائق البطاطا الفاخرة" في المملكة المتحدة، ما ألهم توم وإخوته لأن يصبحوا أول مزارعي بطاطا في إيرلندا يصنعون رقائق البطاطا يدوياً من محصلوهم الخاص. بدت الفكرة بسيطة وذكية، واستغرقت حوالي أربع سنوات من البحوث للبدء بتلك العملية التكميلية، كما تطلّبت تقسيم العمل.
وقال توم كيوغ عن إخوته: "لا شكّ في أنّنا نبذل قصارى جهدنا. فتولّى روس إنتاج البطاطا، بينما اهتممتُ أنا بإنتاج المقرمشات، وعمل ديريك في الزراعة. لكن حين يأتي وقت الحصاد، سرعان ما ننزل جميعنا إلى الحقل ونعمل معاً. أمّا والدي بيتر كيوغ فتولّى حلّ النزاعات، لكنه نادراً ما اضطر إلى التدخّل بيننا".
تضمّ مهام توم استقدام المكوّنات لتوفير النكهات التي تمتاز بها المنتجات. ويقول: "يكمن السر في الأصالة." يطرح الإخوة أفكارهم ويناقشونها، ثم يسعون إلى استقدام المكوّنات من مزارعين محليين آخرين يشتهرون بإنتاج أفضل السلع. على سبيل المثال، يستقدمون ملح البحر من شركة أونيل المتخصّصة التي تستخرج الملح على ساحل المحيط الأطلسي، بالإضافة إلى نكهة نبتة النفل الصالحة للأكل والتي تُعدّ نبتة إيرلندا الوطنية، لكن لم تُستخدم كمكوِّن غذائي إلى أن لمعت الفكرة في ذهن عائلة كيوغ. وقال توم: "لقد تعرفنا على مُزارع يصدّر نبتة النفل إلى جميع أنحاء العالم، بما في ذلك احتفالات عيد القديس باتريك بالبيت الأبيض ... وذاع صيتنا بفضل هذه النبتة ولاسيّما في الإمارات العربية المتحدة."
ما يتذوّقه العملاء في الإمارات العربية المتحدة وأماكن أخرى هو الفارق الذي أحدثته عائلة كيوغ عبر قلي رقائق البطاطا في قدر للقلي على دفعات صغيرة. ويقول توم: "لا شكّ في أنّ الإنتاج الضخم للمقالي لا يمنحك الجودة نفسها". صحيحٌ أنّ القلي على دفعات صغيرة يستهلك المزيد من الطاقة، إلا أنّ انبعاثات الكربون لدى عائلة كيوغ يتم تتبعها بدءاً من عملية الزراعة والحصاد وصولاً إلى القلي بواسطة برنامج تدقيق توازن ثاني أكسيد الكربون. ثمّ تتولّى وكالة "فيتا" الإيرلندية تعويض انبعاثات الكربون أو تحييدها ومن خلال مشروع زراعة البطاطا المستدامة الذي تنفذه العائلة بالتعاون مع شركاء لها في إثيوبيا.
بهذه الطريقة، ترسّخ الزراعة الإيرلندية مكانتها في العالم، وتوفّر منتجاتها الغذائية في جميع أنحاء العالم الأوسع، فيما تزدهر المزارع والعائلات التي تديرها مع احترام جذورها وتجديدها. بعد مرور أكثر من قرنين، لا يزال شباب عائلة كيوغ يعيشون على بعد أقل من خمس دقائق من المزرعة الأصلية الموروثة. ويعبّر روس عن ذلك قائلاً: "تتطلّب الزراعة عملاً دؤوباً وجهوداً كبيرة، لدرجة تكاد تمضي حياتك بين أحضان الحقول الزراعية. وهذا ليس عملاً، لا بل أسلوب حياة."