تقع منطفة أوفيرن في وسط فرنسا وتُعرف بإرثها العريق في مجال الطهي، وعلى وجه الخصوص في صناعة الجبنة. تمتاز هذه المنطقة الجبلية ببيئتها البركانية ومروجها الغنّاء، فتشكّل الموقع المثالي لتربية الأبقار وصناعة الأجبان، مما جعلها من أبرز المنافسين في مجال صناعة الأجبان في العالم، بفضل بيئتها الفريدة وتقنيّات صناعة الأجبان التقليدية التي تتّبعها وتناقلتها الأجيال على مرّ السنين.
وقد أمضيتُ أسبوعاً في هذه المنطقة منذ فترة، وتنقّلتُ بين المراعي الخضراء والقرى الجبلية الرائعة التي تبدو منعزلةً عن العالم. ولحسن حظّي، استطعت أن أختبر باقة من التجارب الحصرية، وبالطبع تمكّنت من تذوّق أصناف كثيرة من الأجبان. في ما يلي سأخبركم يا أصدقائي عن الأصناف المفضّلة لديّ، وسأروي لكم أبرز الأحداث التي شهدتها خلال جولتي.
جبنة سان نكتير
تُعتبر هذه الجبنة من الأشهر في أوفيرن، إذ تمتاز بقوام طري قليلاً ونكهة كريمية، وتُصنع من حليب البقر الخام أو المبستر. وقد سُمّيت تيمّناً بمدينة سان نكتير، حيث يتمّ إنتاجها منذ القرن السابع عشر على الأقلّ. واليوم، يمكن استقدام هذه الجبنة من 200 مصنّع.
ومن مصنّعي الأجبان الخبراء هؤلاء تعرّفنا على ألان غيتار الذي يحضّر كميّات كبيرة من هذه الجبنة مرّتَين في اليوم، من حليب مستقدم 60 بقرة ترعى في مروجٍ ذات تربة بركانية. لا يُملّ من رؤيته يعمل بالخثارة ومصل اللبن، ويصنع أشكالاً بالجبنة، ويملّحها ويضغطها.
يتمّ تعتيق كلّ قطعة جبنة لمدّة 8 أسابيع كحدّ أقصى على حصائر من قصب الجاودار في أقبية رطبة، لتعزيزها بلمسة فريدة وغنية شبيهة بالمكسّرات مع لمسات ترابية خفيفة. يتعدّد استعمال هذه الجبنة، حيث يمكن إضافتها إلى طبق الأجبان أو تذويبها على شكل فوندو، أو تقطيعها إلى مكعّبات في السلطة، أو إضافتها إلى أطباق الباستا للحصول على لمسة غنيّة.
لكن أشهى طريقة لتناولها تبقى على الفطور، في المزرعة حيث تمّ تحضيرها، فيما تتأملون التلال مترامية الأطراف والوديان الخضراء.
جبنة كانتال
تقدّم فرنسا عدداً من أصناف الجبنة الفريدة من نوعها، التي تجمع التقاليد مع الابتكار في قالبٍ واحد. خلال زيارتي السابقة إلى جبال جورا في الماضي، التقيتُ بجان شارل أرنو الذي يعتّق 180 ألف قالبٍ من جبنة كومتيه في حصنٍ ضخم، كان في الماضي تحت سيطرة نابوليون. أمّا في هذه الرحلة، فقد لفتني صانع الجبنة من الجيل الرابع سيبريان دورو وقبو الجبنة الخاص بعائلته.
أسست أسرة دورو مصنع جبنة فروماجري دورو، وتمتلك إرثاً عريقاً في صناعة الجبنة في أوفيرنيه، إذ تُعرف بطريقة التعتيق الفريدة التي تعتمدها، باستخدام نفق قطار بطول 1.3 كلم. يتمتّع هذا النفق ببيئة رطبة وحارة، فيوفّر الظروف المثالية لتعتيق أصناف الجبنة من أمثال جبنة كانتال.
تُعتبر هذه الجبنة من الأقدم في فرنسا، فأصولها تعود إلى أكثر من 2000 سنة؛ وهي تُصنع من حليب البقر، وتتمتّع بقوام صلبٍ يتفتت بسهولة، كما تُقسم إلى ثلاثة أصناف، وهي: غير المعتّقة، المعتّقة، والمعتّقة لمدّة طويلة. ويمكنني القول إنّ الصنف الأخير هو الأفضل، فقد أعجبني مذاقه الترابي الغني المعزز بلمسات من التوابل والكراميل.
جبنة روكامادور
لست في العادة من عشاق البرغر، فنادراً ما أتناوله، وخاصّةً في فرنسا. لكن بعد أن أمضيت النهار في استكشاف جبنة الماعز الطريّة هذه، المصنوعة من حليب ماعز جبال الألب الخام، شعرت بحبٍ كبير لها، لذا كان لا بدّ لي أن أجرّب ذاك البرغر، حيث توضع فيه قطعة كبيرة منها فوق شطيرة لحم شهية، ويرشّ على وجهها عسل فيجياك.
تذوقت هذه الجبنة المدموغة بختم التحكم في أصل تسمية المنشأ في مزرعة لا بوري دامبير المعروفة بصناعة جبنة روكامادور. تركّز هذه المزرعة على الجودة والأصالة، وتعتمد الممارسات المحلية المستدامة، غير أنّها لا تكتفي بصناعة الجبنة بل تدعم أيضاً أصحاب الهمم عن طريق توفير فرص عملٍ لهم وتبنّي مفهوم الإدماج وتعزيز المسؤولية الاجتماعية في قلب المجتمع.
تختلف جبنة روكامادور عن غيرها من أصناف جبنة حليب البقر، إذ يقتصر تعتيقها على ستة أيّام ليبدو مذاقها حامضاً خفيفاً مع لمسات من البندق. لم أستطع أن أكتفي من لذّة هذه الجبنة وعلى ما يبدو أنّ السكان المحليون يحبونها بالقدر نفسه، إذ تفيد التقارير بأنّه يتمّ إنتاج 31 مليون قطعة منها في العام الواحد.
جبنة لايول وجبنة توم فريش دو لوبراك
تقع مدينة لايول في منطقة أوبراك على حدود أوفيرنيه، وتشتهر بثلاثة أمورٍ لا رابع لها، هي السكاكين، ومطعم الشيف ميشيل براس الحائز على ثلاث نجوم ميشلان، والجبنة المسمّاة تيمّناً بها. تُصنع هذه الجبنة من حليب بقر أوبراك أو سيمانتال الكامل الخام فحسب، وتعود إلى زمنٍ بعيد يرجع إلى العصور الوسطى.
تمتاز هذه الجبنة بشكل أسطواني شبيه بجبنة كانتال، وتُنتج في قوالب كبيرة تُترك بعدها لتتعتّق في أقبية باردة ورطبة. وقد تعرّفت على عملية تعتيقها الكاملة في مصنع جون مونتانيه الذي يضمّ 77 مزارعاً مياوماً. يمكن توقيف عملية التعتيق في منتصفها (أي بعد تصفية الخثارة بواسطة قطع كتّان، وقبل تقسيم القوالب وتمليحها وتشكيلها وضغطها)، للحصول على جبنة مدعوة باسم توم فريش دو لوبراك، تشكّل المكوّن الرئيسي لإعداد طبقٍ إقليمي يدعى أليغو، وهو عبارة عن مزيج من الجبنة الذائبة وبوريه البطاطا والكريمة.
وخلال دورة تطبيقية في المقر الرئيسي لمصنع جون مونتانيه، تعلّمت أنّ السر لتحضير هذا الطبق بطريقة مثالية يمكن في هرس البطاطا قبل أن تبرد، وإضافة الكريمة وبرش الجبنة فوقها على نار خفيفة، وبهذا يبدو قوام الطبق سلساً وخفيفاً. يجب خفق المزيج بسرعة وعزم حتّى تغدو الجبنة الذائبة مرنة ويصبح قوامها مطاطياً جداً وشفافاً.
جبنة بلو دي كوس
كانت رحلتي في فرنسا تشارف على نهايتها، وفي مغامرتي الأخيرة توغّلت في الأقبية الجبلية القديمة في منطقة بيريلاد. بُنيت هذه الأقبية بتصميم شبيه بالكاتدرائيات من الحجر الكلسي، وتكون الحرارة بداخلها منخفضة ممّا يجعلها المكان المثالي لتعتيق قوالب جبنة بلو دي كوس.
في الماضي، كانت هذه الأقبية تُستخدم لتعتيق جبنة الروكفور الشهيرة المصنوعة من حليب الغنم، والتي تتمتّع بتركيبة مشابهة لجبنة بلو، ولكنّ هذه الأخيرة ليست معروفة بالقدر نفسه. توفّر هذه الأقبية أجواءً باردة ورطبة مثالية لتتشكّل نكهات هذَين الصنفَين العميقة والخطوط الزرقاء التي تميّزها.
تعبّر طريقة التعتيق التقليدية الطبيعية هذه عن فرادة التربة المحلية، وتنتج صنفاً فريداً من الجبنة يمتاز بنكهات ترابية معقّدة ويجسّد إرث المنطقة الغني في عالم الطهي. وبالرغم من أنّ جبنة بلو تمتاز بلمسة حامضة واضحة، إلّا أنّها تحافظ على قوامها السلس والكريمي. لقد أسعدني كثيراً اكتشافها، وتلذذت بطعمها الشهي.