عندما أعود بالذاكرة إلى طفولتي، لا تفارقني صورة غداء يوم الأحد في منزل جدّتي في بيروت. كان الأحفاد الـ14 يجلسون في غرفة الجلوس خلال وقت الغداء، ويتجادلون حول مسلسلات الرسوم المتحركة، فيما يجتمع الكبار في غرفة الطعام الرئيسية ويتناقشون بمسائل أكثر أهمية.

وعند نهاية الوجبة، تُقدّم الحلوى، لاسيّما حلوى الحلقوم التركية المفضّلة لدى الجميع في عائلتنا. وكانت الطريقة المفضّلة لدينا لتحضيرها، تتمثل بوضع قطعة منها بين قطعتَي بسكويت من علامة غندور، لابتكار حلوى لزجة ومطاطية مع لمسة مقرمشة. هذه ذكرياتٌ عزيزة جداً على قلبي، لذا كنت سعيدة جداً عندما دعاني فريق علامة حلوى الحلقوم التركية حاجي بكير لزيارة فرعه الجديد. وإذا بي أركب الطائرة المتوجّهة إلى إسطنبول، وكلّي أمل باستعادة أجمل ذكريات طفولتي.

Hacı Bekir is the oldest registered company in Türkiye and one of the oldest 100 in the world

يمثّل حاجي بكير أقدم شركة مسجّلة في تركيا، وواحدة من أقدم 100 شركة مسجّلة في العالم

The term ‘Turkish delight’ is rumoured to have been made popular after an English customer used that expression to refer to Hacı Bekir’s lokum back home

يقال إنّ عبارة "حلوى الحلقوم التركية" بدأت تنتشر على نطاق واسع بعد أن استخدمها زبونٌ إنجليزي ليعرّف عن هذا النوع من الحلوى لدى عودته إلى بلده الأم

كان حاجي بكير أوّل صانع حلوى حلقوم تركية وما زال واحداً من الأشهر في البلاد. تأسست هذه الشركة عام 1777، حين افتتح الحاجي بكير متجراً صغيراً في مقاطعة كاستامونو بعد أن حجّ إلى مكّة المكرّمة. وسرعان ما ذاع صيت حلوى الحلقوم والسكّر نبات التي يبيعها، لدرجة لفتت انتباه السلطان محمود الثاني الذي دعاه إلى قصره وعيّنه كرئيس صناع الحلوى في القصر ليستمرّ بصناعة حلوياته المميزة هناك.

خلال العصر العثماني، كانت المكونات الرئيسية لصناعة الحلقوم تقتصر على الدقيق والعسل والدبس، لكن بحلول القرن التاسع عشر، ظهر السكّر المكرّر والنشاء في السوق بعد استيرادهما عبر التجارة الأوروبية. فاستطاع الحاجي بكير أن يطوّر الوصفة الأولية للحلقوم باستخدام هذه المكونات الجديدة، وما زالت الوصفة التي اخترعها تُستخدم حتّى يومنا هذا. تواصل عائلة الحاجي بكير إدارة الأعمال اليوم، ويعتقد الكثيرون أنّ هذا هو السرّ للحفاظ على إرث المؤسس.

وقد بات المتجر معروفاً باسم علي محي الدين حاجي بكير، حيث يديره الجيل السادس من العائلة المؤسِّسة الذي يهدف إلى توسيع نطاق انتشار الأعمال إلى أسواق جديدة، وجذب عملاء من حول العالم بمفهوم جديد يقدّم إرثهم الذي يعود إلى مئات السنين بحلّة عصرية. يتمركز هذا المتجر في شارع الاستقلال المزدهر، على بعد مسافة قصيرة من ساحة تقسيم، ويمتدّ على ثلاثة طوابق أحدها متجر حلويات جاهزة، والآخر مقهى، والثالث استراحة حلويات.

وما إن رأيت الكميات الهائلة من حلوى الحلقوم التركية التقليدية في طابق المتجر الأرضي، حتى استعدتُ أجمل ذكريات الغداء أيام الأحد في منزل جدّتي. تتوفر هذه الحلويات المبهرة بعدّة نكهات، وكانت معروضة بأسلوبٍ جميل إلى جانب غيرها من الحلويات المُعدّة على الطريقة اليدوية، مثل السكر نبات، والمرصبان، والحلاوة، والبقلاوة. يتألّق المتجر بأرضية رخامية تتّبع تصميم مربعات بيضاء وسوداء يضفي عليها لمسة عصرية، كما تمتاز المنضدات بلمسات ذهبية تشيد بإرث تركيا المعماري الفاخر. من جهتها، تزهو الجدران بتصاميم حمراء تمتدّ من الأرضية إلى السقف وتتخللها علب هدايا مزيّنة. ولا يكتمل المتجر بدون فريق العمل المؤلف من موظفين خبراء يغلّفون كمّاً هائلاً من الطلبيّات بدقة وعناية.

Many Turkish families serve lokum at gatherings and special occasions

تقدّم عائلات تركية كثيرة الحلقوم في الاجتماعات والاحتفالات الخاصّة

Having worked in different departments, Mehmet learned the art of lokum-making at Hacı Bekir, eventually becoming a master

تنقّل محمد بين مختلف الأقسام لدى حاجي بكير، فتعلّم فنّ صناعة الحلقوم على أصوله، إلى أن أصبح خبيراً

بالوصول إلى استراحة الحلويات في الطابق السفلي، نجد آلة متحرّكة تتنقّل عليها الحلويات الصغيرة ليتذوّقها العملاء. هنا تعرّفتُ على الحلواني الخبير محمد، الذي يعمل لدى العلامة منذ 33 عاماً. وكان قد انتهى تواً من تحضير دفعة من حلوى الحلقوم باللوز، وهي المفضّلة لديّ. يوزّع محمد قطع اللوز الطازجة فوق طبقة من الحلقوم المحضّر مسبقاً باتّباع الوصفة التي يبلغ عمرها 200 عام، ثمّ يلفّها مثل البوريتو فوق طبقة من جوز الهند المجفّف، قبل أن يُقطّعها إلى مكعّبات. فكانت هذه القطع زاخرة بالنكهات الشهية والقوامات الغنية، إذ تجمع بين طعم المكسرات المميز في اللوز وحلاوة الحلقوم، وتأتي بقوام مطاطي يحلو تناوله ويعيد الجميع بالذاكرة إلى أيّام طفولتهم الممتعة. كذلك، تذوّقت السكّر نبات بالسمسم، الذي يمتاز بنفحة مرارة يضفيها عليه هذا الأخير، مع لمسة حلاوة من الكراميل.

يقدّم متجر حاجي بكير تشكيلة من نكهات حلوى الحلقوم، بما فيها الورد وجوز الهند والقهوة والنعناع والبندق والفستق الحلبي المحمّص مرّتين (المفضّل لدى محمد) على مدار العام، حيث تُصنع على الطريقة اليدوية من مكونات طبيعية. أمّا القشطة، فتُعتبر من الحلويات الموسمية التي تُقدّم في فترات محددة، ومع الأسف لم يحالفني الحظّ في تذوّقها، إذ تُصنع فقط في الأشهر الأكثر برودة من أكتوبر إلى أبريل. يقدّم المتجر أيضاً باقة من الحلويات الشهيرة، مثل السكّر نبات، الذي يأتي بنكهات مختلفة، مثل القرفة، والبرغموت، والمسكة، واليانسون، والليمون، والبندق.

وبعد أن قررت الرحيل، أعطاني محمد والفريق علبة من حلوى الحلقوم باللوز، وأنبوباً من السكّر نبات بالسمسم. غادرت المتجر والسعادة تغمرني، إذ كنت أحمل حلوياتي اللذيذة بيدي وقد تعرّفت على تاريخ هذه الحلوى التي تتردد صورتها في أجمل ذكرياتي. آمل أن أجرّب منتجات حاجي بكير من جديد، في مكانٍ آخر من العالم.


Haci-Bekir-5.jpg

*في الماضي، كان السكّر نبات يدعى باسم "الطبر زد"، إلى أن سُميَّ بسكر النبات نظراً لطريقة استخراجه. وفي العهد العثماني، اعتاد الشعب تقديمه بعد الاتفاقات المهمة، مثلاً بعد أن ينجح أفراد الجيش في التفاوض لنيل زيادة على رواتبهم. وبهذا، بات يتمتّع بأهمية رمزية في مختلف الاحتفالات، مثل الأعياد الدينية وحفلات الزفاف.