تبدو الغرفة المُخصصة لتعتيق الجبنة، بروائحها الرائعة، أشبه بمدينة من الجبنة، إذ تزيّن قوالب جبنة البارميجيانو ريجيانو رفوف المخزن الشاسع بلونها العسلي. أثناء تجوّل باولو زانيتي في المخزن الذي يشكّل محور حياته وإرثه، بدأ بالنقر على أحد قوالب الجبنة بمطرقة صغيرة، فقد أراد أن يستمع إلى اختلاف صوت النقرات التي ترمز إلى وجود ثقوب أو تشققات في بنية الجبنة.
ويقول معلّقاً: "يبدو الصوت متجانساً، وهذا يشير إلى خلّو الجبنة تماماً من العيوب، وهي بالتالي جبنة مثالية جاهزة لتُعبّأ لصالح علامة سبينس". يرتدي باولو معطفاً مخبرياً أبيض فوق بدلته الفاخرة، ويضع غطاء رأس طبياً تحت قبعة تحمل شعار علامة زانيتي تغطي شعره المجعّد الطويل. تتعدد مهارات باولو بين حرفي ماهر ورجل أعمال ناجح وعالِم متميّز، ويقول بهذا الشأن: "اكتسبت أشهراً وسنوات من الخبرة في شبابي، فقد كنت أذهب مع والدي إلى مصنع مشتقات الألبان لأتعلم كيفية اختيار أصناف الجبنة، عبر التدقيق بالقالب تلو الآخر. أعتقد أنه من المهم جداً أن تفهموا ماهية المنتج الذي تقدمونه وتفاصيله قبل بيعه."
أبقار الفريزيان (الهولندية)
تقطيع قالب جبنة الغرانا بادانو
تعدّ جبنة البارميجيانو ريجيانو المخزّنة في معمل زانيتي الواقع في مدينة بانوكيا في مقاطعة بارما بمنطقة إيميليا رومانيا، أحد أفضل صنفين من الجبنة على حد تعبير باولو. والصنف الثاني ألا وهو جبنة الغرانا بادانو فتُصنع في مرفق آخر تابع لعلامة زانيتي يقع في منطقة إنتاج خاصة بهذا الصنف على الجانب الآخر لنهر بو. تزخر التشكيلة بأصناف أخرى من الجبنة، إلّا أنّ هذين الصنفين يتميّزان بكونهما من الأطايب الإيطالية المشهورة والمطلوبة، وقد حازا على شهادة حماية المنشأ.
وفي هذا السياق، يقول باولو: "نحن نقدّم أفضل أصناف الجبنة محمية المنشأ في العالم، وهذا ليس لأنني فرد من عائلة زانيتي." في الواقع، يمثّل باولو الجيل الرابع لعائلة متخصصة في مجال إنتاج الجبنة الذي بدأ مع جدّه الأكبر غويدو قرابة العام 1900. وبعد الحرب العالمية الثانية، عمل عمّه أنتونيو على تحديث أعمال الشركة، وقد وُلد باولو في تلك الفترة الانتقالية التي شهدت انتقال العديد من الشركات الإيطالية من مراكز المدن في إيطاليا، وكان مصنع زانيتي الأساسي لا يزال في قبو منزل طفولته. فنشأ محاطاً بأجواء هذه الصناعة وكان يلعب كرة القدم مع العمّال في صغره.
“Quality...is our shared passion across every stage of the process, from the feeding of the cows to packing of the cheese, right until we deliver to Spinneys.”
يتأكّد صانع الجبنة من اتساق الخثارة أثناء طهيها
ينقر باولو زانيتي على أحد قوالب الجبنة بمطرقة صغيرة للتأكّد من عدم وجود ثقوب أو تشققات في الجبنة
في غضون ذلك، بدأ جدّه غويدو ابن مؤسس العلامة وحامل اسمه، بتصدير قوالب الجبنة إلى سويسرا وفرنسا والولايات المتحدة في أوائل الخمسينيات. تُعدّ اليوم علامة زانيتي رائدة في مجال تصدير أفخر أنواع الجبنة الإيطالية التي يتم إنتاجها في العديد من مصانع مشتقات الألبان ومرافق تعتيق الجبنة، ومن ثمّ يتم شحنها إلى 103 بلدان (من بينها الإمارات العربية المتحدة، حيث تُباع تحت اسم علامة سبينس فوود).
تُباع أيضاً أصناف مقلّدة وعاديّة بجودة رديئة بشكل شائع في الأسواق الأجنبية تحت مسمّى "البارميزان" أو "الغرانيتو" أو يتم طرحها بأسماء ووصفات مختلفة. ويقول باولو بهذا الصدد: "يتم تقليد منتجاتنا لأنها ممتازة".
ويضيف قائلاً: "يتم تقليد منتجاتنا لأنها مميزة وعالية الجودة." ولكن إذا أردتم التمييز بين المنتجات الأصلية وتلك المقلّدة، فيمكنكم إيجاد الدليل على الغلاف والطبقة الخارجية التي تتشكّل أثناء تعتيق الجبنة، حيث ستعثرون على الشعارَين الرسميَين لرمز شهادة حماية المنشأ واتحاد صنّاع جبنة البارميجيانو ريجيانو مختومَين عليها.
تبدأ عملية صنع الجبنة بغلي الحليب
توضع الجبنة برفق في القوالب
من الواضح أنّ الجبنة الأصلية تتحلّى بنكهة فاخرة لا يمكن تقليدها، إلّا أنّه يصعب التفريق أحياناً بين هذين الصنفَين المتشابهين ظاهرياً من الجبنة الصلبة. فسّر لنا باولو الذي يُعتبر شخصاً مؤهّلاً تماماً في مجال صناعة الجبنة، الخصائصَ التي يتمتع بها كلّ من هذين الصنفين، حيث سلّط الضوء أولاً على مناطق الإنتاج المختلفة في شمال إيطاليا وحيث يجب أن يُصنع كل صنف وفقاً لعملية دقيقة بهدف الحصول على شهادة حماية المنشأ. وعلى حد قوله، تُصنع جبنة الغرانا بادانو من الحليب الخام بينما تجمع جبنة البارميجيانو ريجيانو 50% من الحليب منزوع الدسم جزئياً (يُستقدم الحليب مساءً ويُفصل عن الكريمة خلال الليل قبل خلطه مع الحليب كامل الدسم الذي يُستقدم صباحاً).
تعدّ الدقّة عاملاً بالغ الأهمية في ما يتعلّق بالوقت والحرارة، إذ لا يجب أن تتعدى مدة استقدام الحليب من البقرة إلى حاوية الجبنة أكثر من ساعتين، ويجب أن يُغلى الحليب قبل إضافة المنفحة وتقطيع الخثارة وبعد ذلك. وعلى الرغم من قيام علامة زانيتي بالاستثمار في التكنولوجيا الحديثة على مرّ السنوات بهدف الحفاظ على الاتساق في عملياتها وعلى معايير صحية حديثة محدّدة، إلا أنّ جزءاً كبيراً من هذا الفنّ والعلم في مجال الطهي ما زال يعتمد على منهجية عملية قديمة، أو كما يحب أن يسمّيها باولو "المنهجية اليدوية".
تُقطّع الخثارة باستخدام أداة خاصة تدعى سبينو
تُصفّى كميّة الحليب الزائدة من جبنة الغرانا بادانو
"من المهم جداً معرفة الوقت المناسب لوضع المنفحة في القدر المعدنية الكبيرة، أو تقطيع الخثارة باستخدام سكينة مناسبة، ومن ثمّ التأكد من تجانس الخثارة أثناء طهيها... لذلك تعتمد عملية صنع الجبنة بشكل كبير على خبرة ومهارة صانعها الذي يعدّ دوره الأهم داخل مصنع مشتقات الألبان."
يتطلب المزيج النهائي فترة أطول من جبنة الغرانا بادانو ليُعتّق ويوافق اتحاد صنّاع جبنة على المنتج بعد فترة سنة كحدٍ أدنى، مع العلم أنّ معظم الجبنة المُنتجة تُترك لتُعتّق لمدة تفوق السنة أو السنتين في بيئة يمكن التحكم بها داخل هذه الوجهة كبيرة المساحة والمخصصة لتعتيق الجبنة. بدأت عملية تعتيق الجبنة التي أجرى باولو عليها اختباراً باستخدام مطرقة في شهر سبتمبر من عام 2020، وبلغ عمر تعتيقها 30 شهراً عند زيارة فريق سبينس للمصنع. يمكن ملاحظة تكوّن حبيبات داخل قالب جبنة البارميجيانو ريجيانو المعتّقة، وهي تزخر بنفحات الزبدة والمكسرات والفواكه المجفّفة والحامض والبندق.
تُقطّع قوالب جبنة البارميجيانو ريجيانو يدويّاً إلى نصفين
غرفة تمليح جبنة غرانا بادانو
يقول باولو: "أفضّل فتح قالب جبنة بنفسي وتنشّق رائحة النكهات المميزة التي تبعث في النفس شعوراً بالانتصار." تتعدد استخدامات هذه الجبنة إذ يمكن برشها على السلطات وأطباق الباستا، وينصح باولو باستخدامها كإضافة على مائدة الطعام أو التلذذ بها كطبق مقبّلات. أما جبنة الغرانا بادانو فتتميز بقوام ناعم وأكثر سلاسة وبنكهة شهية، فيمكن برشها وتذويبها، وهي مثاليّة مع الفاكهة ذات الطعم الحلو على غرار التين أو التمر، ومع أطباق الطعام كطبق كارباتشيو اللحم البقري.
ومن جهته، يقول رودولفو، ابن عم باولو الثاني، فيما يسير وسط قطيع من أبقار الفريزيان على المقلب الآخر من وادي نهر بو في إقليم غرانا بادانو في لومباردي: "يكون مذاق أي صنف من الأجبان التي نقوم بإنتاجها رائعاً على الدوام". يبدو أنّ الأبقار تعرفه وتحبه، بصفته مراقب جودة الحليب الذي تُنتجه، وكذلك جودة منتجات الجبنة النهائية.يُذكر أنّ أصغر فرد في شركة زانيتي العائلية، والذي يُمثل الجيل الخامس من صانعي الجبنة، قد شارك أيضاً في عملية تحضير الأجبان منذ صغره، من خلال زيارة مصانع مشتقات الألبان مع عمه غويدو. وعلى حد قوله، فالأمر الذي ما زال يثير دهشته يتمثل في أنّ الجبنة تكون عديمة الطعم عندما يُغلى المزيج للمرة الأولى، ولكن بعد مرور تسعة أشهر فقط، وهي الفترة القياسية لتعتيق جبنة الغرانا بادانو، تكتسب الجبنة نكهة لا تضاهى.
جبنة الغرانا بادانو
يوضع ختم غرانا بادانو الرسمي فقط على قوالب الجبنة بمجرد أن يمرّ ما لا يقلّ عن تسعة أشهر على تعتيقها
يُذكر أنّ أصغر فرد في شركة زانيتي العائلية، والذي يُمثل الجيل الخامس من صانعي الجبنة، قد شارك أيضاً في عملية تحضير الأجبان منذ صغره، من خلال زيارة مصانع مشتقات الألبان مع عمه غويدو. وعلى حد قوله، فالأمر الذي ما زال يثير دهشته يتمثل في أنّ الجبنة تكون عديمة الطعم عندما يُغلى المزيج للمرة الأولى، ولكن بعد مرور تسعة أشهر فقط، وهي الفترة القياسية لتعتيق جبنة الغرانا بادانو، تكتسب الجبنة نكهة لا تضاهى.
يستطيع رودولفو أيضاً أن يردّد أوجه الاختلاف بين جبنة الغرانا بادانو وجبنة البارميجيانو ريجيانو، لأنّ الأولى تُحفظ باستخدام الليزوزيم، وهو أنزيم طبيعي موجود في بياض البيض والدموع البشرية إلخ. لكن سيُخبرك أيّ فرد من عائلة زانيتي أنّ الميزة الاستثنائية في صنفَي الجبنة هي مدى ضآلة التغيرات التي طرأت عليها خلال 1000 عام أو ما يقرب ذلك، أي منذ أن عمد الرهبان المحليون إلى صنعهما للمرة الأولى. وقبل أن تصبح إيطاليا ما هي عليه اليوم، وجد هؤلاء الرهبان أنّ صناعة الجبنة هي أفضل طريقة للحفاظ على الحليب الزائد الذي تنتجه الأبقار في أراضي أديرتهم. فقال باولو في هذا الصدد: "يُعتبر كلاهما من أصناف الجبنة الممعِنة في القِدم، فصحيح أنّ التكنولوجيا تطوّرت إلّا أنّ مكّونات تحضير الجبنة بقيت على حالها". ومن هذا المنطلق، تضع عائلة زانيتي نفسها بمقام الأمين على هذين الصنفين من الجبنة وتأخذ على عاتقها الحفاظ على جودة هذا المنتج القديم.
وأضاف باولو: "الجودة ليست مجرد كلمة عادية، بل إنّها شغفنا المشترك في كل مرحلة من مراحل تحضير الجبنة، بدءاً من إطعام الأبقار مروراً بتعبئة الجبنة، وصولاً إلى بيع الجبنة لسوبرماركت سبينس".