هيلين فارمر تحدثنا عن تجربتها المجزية وما اختبرته من تحديات أثناء تسلق أعلى قمة في أفريقيا
أودّ أولاً أن أوضح نقطة مهمة: أنا لا أتمتع باللياقة البدنية ولا أحب المغامرات إجمالاً. وإذا طُلب مني الجري مسافة كيلومترين، ما ألبث أن أشعر بضيق نفس في غضون دقيقتين، ويعلو وجهي الاحمرار. في الواقع، قبل شهر أكتوبر من عام 2021، كانت أعلى قمم تسلقتها هي قمم تلال منطقة البحيرات في إنجلترا في طفولتي.
ومع ذلك، ها أنا اليوم في سن 39 عامًا وقد أصبحت أمًا لطفلتين، بوسعي القول دومًا إنّني قهرت قمة كليمنجارو، أعلى جبل مستقل في أفريقيا. ولولا الصور التي التقطتها (والظفر الذي فقدته)، ما كنت لأصدق إنجازي.
السؤال الذي طرح عليّ مرارًا وتكرارًا هو التالي: لماذا؟ ما الذي دفعك لخوض أسبوع كامل في البرية في درجات حرارة التجمد، والتسلق يوميًا لساعات دون أي تغطية لشبكة الهاتف، مع طعام مشكوك فيه، ووقت طويل بعيدًا عن طفلتيك؟ ما زلت أحاول فهم ذلك بنفسي، لكن دعونا نبدأ من البداية.
في نشأتي، مارست بعض الرياضة (كانت لي مشاركة في فريق كرة الشبكة المدرسي وبعض رياضة الهوكي، وكنت أشارك في سباقات العدو الريفي وأتذمر عادة من الجري في المطر). ومع تقدّمي في السن، زاد وزني، واعتدت خلال العشرين عامًا الماضية أن أكون الأضخم حجمًا في الغرفة، والأبطأ في معسكر التدريب الرياضي، والأضعف في صالة الألعاب الرياضية. ثم قررت إجراء بعض التغييرات الكبيرة: أنقصت وزني بمقدار 40 كلغ، وبدأت أمارس الرياضة (وصُدمت لاستمتاعي بها!)، وأصبحت أكثر نشاطًا بشكل عام. شملت نشاطاتي المشي مسافات طويلة في مواقع مختلفة بدولة الإمارات، ومنها صخرة الأحفور، ووادي شوكة، وجبل جيس، والمزيد.
وعندما أعلن مدرّبي وصديقي كيث أن شركته "ذا فيزيكال ترينيغ كومباني" ستتعاون مع مؤسسة "غلف فور غود" لتنظيم رحلة إلى قمة كليمنجارو من أجل جمع الأموال لدعم مدرسة في تنزانيا، سجّلني للمشاركة.
فقلت لنفسي: إن موعد الرحلة بعد عام كامل! ونحن في وسط جائحة! فلن يتحقق الأمر بتاتًا! ولفترة، نجحت هذه الأفكار في طمأنتي.
إلا أن لرحلة أصبحت واقعًا وشيكًا. كنا فريقًا مؤلفًا من 18 مشاركًا، تولّت تدريبنا الأولي كارولين ليون، وهي من نخبة خبراء تسلق الجبال، في جلسة أقيمت في صالة رياضة تأكدت فيها من أمتعتنا، وأوضحت أن مستويات النظافة سيكون مشكوك بها، ونصحتنا أن نستمتع بطبيعة أفريقيا في كل ثانية من وجودنا فيها، كما حرصت على التحقّق من أن كل ما اشتريناه لرحلتنا سيكون كفيلاً بإبقائنا دافئين.
في الأيام التي سبقت رحلتنا في أكتوبر، دارت عدة حوارات حول الحفاظ على الدفء خلال الرحلة، وعن طبقات الملبس المطلوبة أثناء التسلق، والنوم، وبلوغ القمة. وعلمت أنه في كليمنجارو تكون المرحلة الأخيرة من الصعود إلى القمة خلال الليل ويكون البرد قارسًا جدًا. هل لدى كل منا كيس ماء ساخن للتدفئة؟ قارورة؟ ما يكفي من الجوارب؟ كيس نوم مناسب، أكثر دفئًا مما يستعمل في رحلات التخييم في كثبان دبي؟ وجبات خفيفة ستبهجنا عند مواجهة المشقة في الساعة الثالثة صباحًا؟ طرحت كارولين أسئلة لا نهاية لها للتأكد من أن عدّتنا تشمل كل ما سنحتاجه، فما من متاجر نلجأ إليه على ارتفاع 5,895 مترًا.
أما من ناحية الاستعدادات الأخرى، فكنا نتسلق منحدر سكي دبي كمجموعة في صباح أيام الجمعة، ونسير في وادي شوكة عندما يكون الطقس باردًا، كما تحمّلنا مغاطس من المياه المثلجة، وتدربنا على التنفس الواعي لمساعدتنا في ضبط مستويات الأكسجين، وتبادلنا روابط التسوّق و"الميمز" عبر مجموعتنا على واتس آب، ومارسنا تدريبات تعزيز القوة في "ذا ترينينغ روم"، وتشاركنا مقاطع فيديو لأشخاص سبق أن بلغوا القمة.
أما أنا، فلم أشعر بعد أن الرحلة أوشكت أن تصبح واقعًا. وضّبت أمتعتي، وتلقيت لقاحاتي وحقنة الحديد، وبحثت في موضوع الدواء المضاد للغثيان وقررت أن آخذه، وحاولت التكلم مع ابنتيّ حول الرحلة (لكن لم يبدُ عليهما القلق كثيرًا)، ثم تحدّثت مع الأطباء محاولة أن أعثر على مخرج من القيام بالرحلة على أساس امتلاكي ركبتين ضعيفتين، كما لو كنت أبلغ التسعين من العمر. ومع ذلك، كانت الرحلة ستتحقّق.
سافرنا بالطائرة من دبي إلى أثيوبيا، وانتقلنا من هناك إلى كليمنجارو، وكنا أثناء السفر نراقب غيرنا من المتسلقين الواقفين في الطابور متسائلين عن المسار الذي سيتخذونه وإن كانوا سيفلحون في بلوغ القمة.
أقمنا في ليلتنا الأولى في فندق مارانغو الذي يبعد عن المطار ساعتين بالحافلة الصغيرة. كان فندقًا بسيطًا وإنما محاطًا بحدائق غناء تزخر بالأشجار الأرجوانية والعشب الخصب. وكانت الشاليهات التي أقمنا فيها آخر ما اختبرناه من طريقة عيشنا المعتادة. وبعدها ودّعنا الأسرّة والمراحيض التي لن نعرف لها أثر خلال رحلة التسلق. كان الفندق يمتلك خبرة واسعة تعود للثلاثينيات من القرن السابق في مساعدة الرواد على تسلق القمة، ومعرفة عميقة بكيفية تنسيق فرق المرشدين والحمالين. وما كانت شدة مفاجأتي عندما أدركت حجم الفريق الذي كان سيرافقنا، فقد بلغ عددنا 92 شخصًا، ما جعلني أشعر أنني برفقة جيش كامل.
كان مرشدنا الرئيسي يدعى تشارلي، ورافقه 10 مرشدين مساعدين، وطباخون، وحمّالون، والمزيد من طاقم العمل. وكانت الجائحة قد ألقت بظلالها الثقيلة على تنزانيا، خاصة وأن السياحة تشكّل مصدر دخل مهم للسكان. أما الطاقم، فلم تكن رحلتنا هذه سوى الثانية لهم في عامين، وبفضلها عمّت أجواء من المرح ودبّت الحماسة في نفوس أعضاء الفريق لأنهم عادوا للعمل من جديد، فشاركناهم الحماسة. كنا بأيدٍ أمينة، ومعنا المعدات اللازمة، ومع فريق على معرفة تامة بما ينبغي عمله، وأصبحنا مستعدين.
بعد وزن معداتنا، وملء قواريرنا بالمياه، حان وقت الانطلاق. سلكنا مسار رونغاي الذي بدأ في الغابة المطيرة، وكان يومنا الأول سهلاً وأتاح لنا مشاهدة القرود المتنقلة بين الأشجار والتعرف على المرشدين. وصلنا إلى المخيم لنجد خيمة الطعام منصوبة، وكذلك خيامنا الخاصة، وأمتعتنا بانتظارنا. فكانت مفاجأة هائلة. وبعدها أصبح الجو باردًا. واحتجنا منذ ليلتنا الأولى إلى اعتمار القبعات وارتداء طبقات من الملابس للبقاء دافئين أثناء العشاء، وأيدينا ملفوفة حول الكوب تلو الآخر من الشاي الساخن. وعندما استيقظنا في الصباح التالي، أدركنا أننا أصبحنا فوق الغيوم.
خلال الأيام القليلة التالية بدأنا نعيش إيقاعًا ما. كنا في بعض الأحيان هادئين، والبعض الآخر أكثر ثرثرة. قطعنا مسافات طويلة، متوقفين لتناول غداء مشبع والاستلقاء لبرهة. وكنا نرتدي طبقات الملابس ونخلعها كما تقتضي الحاجة، ونخلد إلى النوم باكرًا بعد تجاذبنا أطراف الحديث حول مائدة العشاء عن أبرز ما واجهناه خلال اليوم.
من يسكن في مدينة نابضة مثل دبي يشعر بتغير رائع بفعل الانقطاع عن صخب الحياة. فهنا، ما من هواتف ولا أي شيء آخر سوى التسلق وكوننا مترافقين.
نمنا في ظل الجبال المجاورة، واستيقظ بعضنا شاعرًا بالغثيان، بينما صحا آخرون مع شروق الشمس لالتقاط الصور، واكتفى البعض الآخر بالانطواء على أنفسهم والتفكير بما ينتظرهم في المرحلة التالية، بينما فضّل سواهم البقاء برفقة آخرين. ولكننا جميعًا كنا محاطين بالجمال كيفما التفتنا.
لقد ترددت على مسامعنا عبارة "أمسية القمّة" مرارًا وتكرارًا، لكن كل ما سبق وعشناه لم يجهزنا بتاتًا لتلك الليلة.
بعد مسار طويل وشاق إلى كوخ كيبو (القائم على ارتفاع 4,750 مترًا فوق سطح البحر) تناولنا العشاء باكرًا وخلدنا إلى النوم في الساعة السادسة مساءً. ثم أفاقنا المرشدون في الساعة 11 ليلاً للانطلاق نحو القمة.
كنا ننام في ملابسنا بسبب شدة البرد التي لا تسمح بتبديل الملابس. احتشدنا في خيمة الطعام لجلسة إحاطة أخيرة قبيل الانطلاق وفحص المعدات. وتحقّق المرشدون من ارتدائنا كل طبقات الملابس اللازمة، وتزودنا بالماء وعصي المشي ووجباتنا الخفيفة المفضلة.
سرنا في طابور واحد، وواصل المرشدون التحقق من سلامة الجميع أثناء السير. وعندما نظرنا إلى الأعلى، شاهدنا المجموعات التي غادرت قبلنا وأنوار المصابيح المثبتة على رؤوسهم متلألئة كالنجوم في حلكة الظلام. لقد بدوا عل ارتفاع يصعب تصديقه. ما دفعني إلى التساؤل: أنحن ذاهبون حقًا إلى حيث مضوا؟
انقسم أعضاء فريقنا تلقائيًا إلى مجموعتين. وعاد البعض أدراجه إلى المخيم، إما من شدة التعب أم من شدة الغثيان والألم. ومع شروق الشمس شعرت بنقطة تحوّل؛ فكنا قد بلغنا ارتفاعًا شاهقًا لدرجة أننا استطعنا رؤية التقوّس في أفق الأرض، وأدركت حينها أن أبرد الساعات قد ولّت. ومع إشراق النور، لم أعد أنظر إلى أحذية السائرين أمامي، بل أصبح بإمكاني رؤية كلّ ما حولي، وغمرتني الدهشة حول مدى تقدّمنا.
القمة الأولى في كليمنجارو هي قمة غيلمان، ونجح ببلوغها ما يزيد قليلاً عن نصف أفراد مجموعتنا. ثم حان الوقت لاتخاذ قرار حاسم: من الذي يشعر أنه قادر على بلوع قمة أوهورو؟ تقع القمة على بعد ساعتين إضافيتين من المسير صعودًا حول فوهة بركان متجمدة، وهي أعلى نقطة في الجبل.
كان من الصعب جدًا رؤية الأشخاص في الفريق الذين أرادوا مواصلة الرحلة ولكن شعروا بأنهم غير قادرين على ذلك، وفي النهاية نجح خمسة منا بقهر القمة.
لقد مضى شهران على الواقعة وما زلت غير قادرة على استيعاب ما جرى. وما أن قرأت اللافتة التي تقول "تهانينا، أنت الآن عند قمة أوهورو، تنزانيا، 5895 مترًا فوق مستوى سطح البحر" حتى ارتسمت البسمة على وجهي. جلست عند قاعدة اللافتة ممسكة بصورة لابنتيّ كان زوجي قد خبأها في حقيبة ظهري، وانهمرت الدموع من عينيّ.
وبعدها؟ سرعان ما حان وقت النزول. فكلما بقينا على هذا الارتفاع، زاد الخطر، وكان من المهم المباشرة بالعودة أدراجنا. استغرق صعودنا إلى القمة 10 ساعات، أم النزول، فأربع ساعات، تلتها استراحة عند كوخ كيبو، ومسيرة أربع ساعات أخرى للقاء الفريق.
لا يسعني وصف كم كان الاستحمام ممتعًا عند العودة إلى الفندق! فبعد ما يقرب من أسبوع من النوم في الملابس نفسها والاغتسال بالمناديل المبللة، شعرت بفرحة لا مثيل لها. ثم حصلت على سندويتش بالجبن محمّص! يا لفرحتي. أما أبرز لحظة في الاحتفال فكانت عندما قدّمنا الإكرامية لأعضاء الفريق، وأمضينا صباحًا ملؤه الأغاني والدموع. لقد كان هؤلاء الرجال مذهلين بكل ما في الكلمة من معنى.
كنا محظوظين للغاية لتمضية يومين إضافيين ممتعين في تنزانيا حيث تمكننا من زيارة مدرسة إنجورو التي جمعنا الأموال لبناء عرفتَي تعليم فيها، ونلنا ترحيب القرية بأكملها (وربما بكيت مرة أخرى...). كما قمنا برحلة إلى الشلالات المجاورة والقليل من التسوق بالطبع، فعدنا وبجعبتنا القهوة وقطع فنية وقمصان تي-شيرت، وطبعًا كان لا بد من شرائي قميص عليها "كليمنجارو: حققت ذلك للتو." ولست بنادمة.
وأقول لكل الذين يفكّرون بخوض التحدّي: أقدموا عليه. فسوف يغيّر حياتكم، وطريقة تفكيركم بأنفسكم وبالعالم، وستمنحكم التجربة ذكريات تدوم مدى الحياة. أما أنا، فعليّ التفكير بما سأقدم عليه بعدها...
لا تفوتوا الفرصة
تنظم مؤسسة "غلف فور غود" (gulf4good.org) رحلات منتظمة، كما ستقوم مؤسسة "ذا ترينينغ روم" (ttr.ae) بتنظيم رحلة إلى كليمنجارو في شهر أكتوبر من العام 2022.